لمكافحة الانتحار 2
Author: أورباخ
كيف تصغي للشخص الموجود فوق السطح؟
تعقيب على مقال إليتزور وعومر
يسرائيل أورباخ[أ]
إنّ المقال المعنون ب " ما الذي قد تقوله للشخص الموجود فوق السطح؟" هو نصّ طلائعيّ هامّ، مفيد وذو قاعدة متينة. يجب تزويد الشخص المتواجد في الأسفل بهذه الوسائل حين يقف أمام الشخص المتواجد أعلاه خلال صراعه بين الحياة والموت. يقوم المؤّلفان في هذا السرد بوصف الحالة النفسية للشخص المتواجد فوق السطح بأسلوب حسّاس نابع عن فهم معمّق للتوازن الوجوديّ والحاسم الحاصل هناك فوق السطح.
إنّ نقطة انطلاق إليستور وعومر هي بأنّ الحالة النفسيّة التي تنتاب الشخص المقبل على الانتحار، قبيل قيامه بذلك بلحظة، تمثّل صراع حادّ وغير مستقّر، وبأنّ هذه الحالة تمنحنا الفرصة والحقّ بالتدخّل في هذا الصراع لترجيح كفّة الرغبة في الحياة. إنّ الشخص المقبل على القفز في أيّ لحظة، مثلما يفعل أيّ شخص مقبل على الانتحار، يجد نفسه في صراع بين الرغبة في الحياة والرغبة في الموت. وحتى في هذه اللحظة، فإنّ القرار ليس نهائيّا. لقد كانت هناك حالات كثيرة لأشخاص وضعوا حدّا لحياتهم، وقد كانت الجملة الأخيرة التي نطقوا بها حين لفظوا أنفاسهم الأخيرة:
"لا تدعوني أموت."
إنّ مبنى السرد، والذي يشدّد أولاّ على موقف التعاطف ومن ثمّ على موقف المواجهة، يبدو لي بارعًا. من المفهوم أنّ أفضل الطرق للوصول إلى قلب الشخص الذي يمرّ بمحنة ما هي بناء علاقة من خلال التعاطف ومدّ يد إنسانيّة ورفيقة تخترق غلاف العزلة لإيجاد الشخص المتألّم. وعندئذ، يمكن مواجهة الجزء الهدّام الكامن في داخل هذا الشخص، مع المحافظة على التعاطف.
وإن محاولة نسج مؤامرة مشتركة ضدّ الموت المغري والمخادع تبدو لي مناسبة. إنّ هذا الجزء من السرد يعكس العلاقة الغراميّة القائمة بين الشخص المقبل على الانتحار وبين الموت الذي يحمل باقة من المعتقدات الهدّامة آملا بتحقيق " مستقبلا" أفضل. وبدلا من نزوة الموت الهادف لتحقيق الأفضل، يعرض لنا موقف المواجهة " الأنا المستقبليّ" الذي سيكفّ عن الوجود عند هلاك الأنا الحاليّ.
ولكني ، ومن ناحية استراتيجيّة، كنت سأبني السرد بطريقة أخرى. إنّ التعاطف، في ماهيته، هو المقدرة على فهم تجربة الألم الذي يشعر به الشخص الذي يواجه محنة ما، المقدرة على فهم الألم مثلما يشعر به هو. إنّ التعبير عن الألم الذي ينتاب الشخص المتواجد فوق السطح من منظور الشخص المتواجد في الأسفل لا يكفي. ويعتمد سرد إليتزور وعومر على فهمهم لماهية ألم الشخص المقبل على الانتحار، في حين يستقون المعرفة حول الألم غير المحتمل من تجاربهم الذاتيّة. وهنا، فإنّهما يعتمدان على الفرضية القائلة أنّه عند التطرّق لكلّ ما يتعلّق بالوجود والمعاناة، فإنّ العوامل المشتركة بين الكائنات البشريّة تسمو على الأختلافات بينهم. إنّ الرسالة القائلة " اعرف ما الذي تشعر به"، والتي يقترحها النصّ كجسر للوصول إلى الشخص المقبل على الانتحار تمثّل ظاهريّا التجربة الذاتيّة التي يمرّ بها كلّ من المنقذ والشخص المقبل على الانتحار. ولكني أعتقد أنّ التجربة الذاتية التيّ يمرّ بها الشخص المقبل على الانتحار في لحظة معيّنة تختلّف عن تلك التي يمرّ بها الشخص المنقذ، حتى إن مرّ سابقًا في تجارب مماثلة. صحيح أنّ التفهّم وعلاقة التعاطف بين شخصين يعتمدان أساسًا على مقدرة أحدهما على الكشف عن معاناته الذاتيّة ليشارك الشخص الآخر معاناته. إنّ التوق الشديد لتفهّم الآخر من خلال التجربة الذاتيّة وعرضها بحماس قد تخطء الهدف وتشعر الشخص المتواجد فوق السطح بأنّ لا أحد يفهمه. إن النصّ القائل " اعرف ما الذي تشعر به" من شأنه أن يعزّز العزلة والبعد.
قد يتيح لنا الشخص المتواجد فوق السطح التحدث إليه، ليس لنقنعه بإن ينقذ نفسه، إنمّا ليثبت لنفسه بأنّ لا معنى لحياته. وذلك يسهّل عليه قطع الخيوط الرفيعة التي لا تزال تربطه بالحياة. يتم ذلك من خلال سماحه للآخرين بالحديث عن المواضيع التي يدركها والتي سمعها عدّة مرّات في السابق. وحين يستنتج بأنّ ما قيل له ليس بجديد، وإن كان ذو معنى، قد يصبح أكثر إصرارًا على تنفيذ غايته. إن توجّهنا لهذا الشخص متزوّدين بالسرد الخاص بنا فقط، دون أن نحاول الإصغاء إلى السرد الخاص به، فإنّنا بذلك نخاطر بقولنا للأمور التي قد تدفعه نحو الانتحار. على سبيل المثال، إن شعر هذا الشخص بانّه مصدر إزعاج ويشكّل عبئا على المحيطين به، فإنّ إتّهامه بإلحاق المعاناة بمحبّيه عند وفاته هو آخر ما يوّد سماعه هناك، بين السماء والأرض.
إنّ السرد المقترح يفتقد إلى صوت المحنة التي يعاني منها الشخص المتواجد فوق السطح. إنّ الجزء الذي يمثّل موقف التعاطف يعتمد على ألم وتجارب المنقذ وليس على ألمه وتجاربه هو، ورغم أنّ الجانب المتعاطف في مقال إليستور وعومر يمثّل معرفتنا بشأن الألم والحالة النفسيّة التي تنتاب الشخص المقبل على الانتحار، إلا إنّها لا تتطرّف بالضرورة إلى الالم الذي يشعر به الشخص الذي يقف أمامنا في هذه اللحظة.
يجدر بنا في هذه الساعة أنّ نحاول الإصغاء إلى سرد الشخص المتواجد فوق السطح. علينا إيجاد طريقة تجعله يعبّر عن الألم الكامن في داخله: كيف وصل إلى مرحلة اليأس هذه، ما الذي أوصله إلى قاع الهاوية، لم افتقدت الحياة معناها، ما هو الألم الذي تهرب منه الآن، ما هو الألم غير المحتمل الذي يعتريك. بكلمات أخرى، إنّ سردنا يجب أن يتضّمن محاولة الإصغاء إلى سرده ،وفق طبيعته الخاصّة ووفق أفضلياته.
وعلينا أن نحاول فهم ذلك خلال اللحظات المتاحة ضمن الحديث. ومن بين الكلمات التي ينطق بها الشخص المقبل على الانتحار خلال الحوار المقلق هذا، علينا البحث عن أهمّ الكلمات، عن أسماء أهمّ الأشخاص وعن شعور الهلاك الذي يعتريه ومن هناك نبدأ بالبحث عن السبل السريّة التي تقودنا إلى ألمه.
يعتقد شنيدمان[1] بأنّ الشخص المقبل على الانتحار بقوة هو شخصًا ثائرًا للغاية، وبأن هذا الثوران يحتل فضائه الداخليّ. إنّ وسيلة المساعدة الفوريّة هي إيجاد الطريقة للحدّ من ثورانه بشكل فوريّ. أعتقد بأنّ تحقيق ذلك يتم من خلال التفريغ العاطفيّ فقط. إنّ الكلام المنطقيّ الذي يستخدمه إليتزور وعومر يخاطب منطق الشخص المقبل على الانتحار، ولكن المنطق ليس بالضرورة الجانب المهيمن في اللحظة الحاسمة. إنّ التفريغ العاطفيّ فقط يستطيع
" إفساح المجال في الفضاء الداخليّ الهائج" والحدّ من العبء المؤلم. إنّ التفهّم التعاطفيّ لقصّة الشخص المقبل على الانتحار هو الذي يزيل جدار عزلته ويمكّن الآخرين من الوقوف إلى جانبه في عزلته هذه.
إنّ المبدأ الذي أتبناه في عمليّ العلاجيّ مع الشخص المعرّض لخطر الانتحار هو إبداء أقصى درجات التعاطف حتى الوصول إلى التماثل لكليّ معه. كما وأحاول بجميع الوسائل فهم كيفية وصول هذا الإنسان إلى نهاية الطريق وإلى المحنة التي لا سبيل للخروج منها. أحاول النظر إلى الأمور بطريقة تجعلني انا أيضا أشعر بأنّ الظروف والتجارب الداخليّة التي مرّ بها هذا الشخص لا مخرج لها، وبأنّ ردّ الفعل الطبيعيّ الوحيد هو اليأس.
لا يتم الحديث هنا بالطبع عن الموافقة مع الشخص المعرّض لخطر الانتحار إنّما على طريقة النظر إلى حياته وإلى تجربته الذاتيّة التي يمّر بها. قد نجد من يسمي ذلك تعاطفًا متطرَفًا. في حين أسمي أنا ذلك تعاطفًا لدرجة التماثل. إستراتيجيّا، أطلب من الشخص المقبل على الانتحار " إقناعي" بأنّ الانتحار هو الوسيلة الأخيرة المتبقيه لديه.
" موافقتي" الوجدانيّة مع متلقي العلاج هي التي ستفتح الباب الداخليّ نحو الأمل والتغيير. إنّ النتيجة الفوريّة لهذا التوجّه هي الاشتعال التجريبيّ وذوبان الشعور بالعزلة. كما وأعتقد بأنّ هذا ما يمكنّنا من تفّهم الآخر المتألّم، ويشكّل هذا التفهّم ماهية التعاطف.
إنّ هذا التوجّه يختلف جدّا في ماهيته عن غالبيّة التوجّهات لمعالجة الأشخاص المقبلين على الانتحار، والتي تهدف لإقناعهم بعدم تنفيذ الانتحار ( من خلال التوقيع على اتفّاقيّة، إقناعهم بالتفائل، تأجيل التنفيذ، حل المشاكل المزعجة بسرعة). لست معترضًا على هذه التوجّهات، ولكنني لا اعتبرها حصريّة أوّ شديدة الأهميّة.
وكما وأفسّر بذات الروح توجّه زاس[2] لموضوع الانتحار. إنّ هذا المنظّر المعارض للطب النفسيّ أكتسب العديد من المعارضين حين أدعى بأن اختيار الموت هو حقّ طبيعي للشخص المقبل على الانتحار، وبأنّه لا يحقّ للمهنيين التدخّل في ذلك. أعتقد بأنّ ادّعاءات زاس تشير إلى أنّه ينبغي علينا الاعتراف أنّ حقّ شخصا ما بالانتحار ينبع عن الألم غير المحتمل الذي ينتابه، وبأنّ المقدرة على تفّهم واعتبار ألمه هي التي تشكّل قاعدة التدخّل في حقوق الشخص المقبل على الانتحار.
الموضوع الإضافيّ الذي يتطرّق إليه سرد إليتزور وعومر هو الوعد بالوقوف إلى جانب الشخص المقبل على الانتحار من أجل إيجاد الحلول الممكنة، ودعمه في نضاله العادل لتحقيق احتياجاته الضروريّة. يشير هنا المؤلّفان إلى النظرة القائلة بانّ الانتحار ينبع عامة عن عوامل خارجيّة.. تساهم العوامل الخارجيّة بدرجة كبيرة في عملية الانتحار، ولكنها ليست الأهمّ. إن الحالة النفسية هي التي تشكلّ قاعدة للانتحار. لا أعتقد بأنّ التلميذ العسكريّ الذي رفض من دورة الضباط سيتأثر بوعد إعادته إلى الدورة أوّ بوعد شنّ حرب عادلة وسيعدل عن قرار الانتحار. الفشل لا يؤدّي إلى الانتحار، ما يؤدّي لذلك هو معنى الفشل. إنّ تحطيم حلم حياة شخص ما في الواقع ما هو إلا تحطيم الحلم داخل روح الشخص المهدّد بخطر الانتحار. إنّ إعادة ما فقد في الواقع لا يعيد للشخص راحته النفسيّة. إنّ الشعور بالذنب، الخزي، خيبة الأمل، اليأس والغضب لا يزول عند تحقيق " الهدف العادل". في بعض الأحيان نسمع الشخص المتواجد فوق السطح يضع شروطًا، ونفترض بإنّه إن تمت الاستجابة لمطالبه في الواقع، فإنّ رغبته في الهلاك ستزول. ولكن بالنسبة لغالبية الأشخاص المقبلين على الانتحار، فأنّهم لا يكترثون للتغيير الذي قد يحصّل في الواقع طالما هم متواجدين في ذلك المكان.
إنّ الشخص المقبل على الانتحار يعاني من ألم نفسيّ غير محتمل ويشعر بانّه يفتقد لأهم احتياجاته أوّ أنّه فقد أعزّ الأمور على قلبه، ولهذا لا معنى لحياته. ويبدو إنّه في ظلّ هذه الحالة النفسيّة، فإنّ مساعدتنا له لا تكمن في تقديم الوعود بشأن دعمنا لنضال عادل، إنّما تكمن في البحث عن طرف الخيط الذي يمكّننا من الوصول إلى المشكله التي لا حلّ لها وإلى الفخ الداخليّ الذي وقع فيه على الشخص المقبل على الانتحار. إنّ طرف الخيط الذي يوصلنا إلى ألم التلميذ العسكريّ الذي رفض من دورة الضباط هو الشعور بالخزي وخيبة الأمل الذي ينتابه، وليس الوعد الذي يبدو له نابعًا من الشعور بالشفقة أوّ الاستسلام للابتزاز. على أيّة حال، علينا البحث عن طرف الخيط في سرده وليس في سردنا.
سأعرض أمامكم مثالا من خلال اقتباس قصة علاجيّة سمعتها عن مايخينباوم[ب] والذي كان يعالج امراة توفي ابنها الصغير حين كان يلهو بمسدس والده. أصبحت هذه المراة انتحاريّة وأخبرت معالجها بانّ ابنها يناديها للانضمام إليه، وهذا ما تنوي فعله. ما الذي قاله مايخينباوم للمرأة المتواجدة فوق السطح؟ أخبرها بانّه يؤمن بوجود طرق أخرى للوصول إلى ابنها والبقاء برفقته. الطريقة الأولى هي ما تنوين فعله، الوصول إليه جسديّا. ولكن هناك طريقة أخرى، تستطيعين الوصول إليه روحيّا. العديد من الأطفال بقتلون جرّاء حوادث مماثلة. يجب فعل شيء ما بهذا الصدد. إن بادرت لإنقاذ طفل واحد، ستشعرين بأنّ ابنك في جوارك، وأنّك في جواره. تجدر الإشارة على أن هذه السيّدة " نزلت من السطح" على الفور.
لا نستطيع دائما التحلي بدهاء مايخنباوم الذي تمكّن من الدخول بشكل تعاطفيّ للغاية إلى أعماق رواية الشخص المقبل على الانتحار والذي يعكس التماثل، المواجهة وإيجاد حلّ للمشكلة. ولكن الإصغاء الوجدانيّ يمنحنا الفرصة للقيام بذلك.
قصة أخرى مماثلة لتلك التي سردها مايخينباوم ،والتي أطلعت علبها شخصيّا، تتعلّق بشخص ما " تواجد فوق السطح" وأصّر على الانتحار إذ شعر بأنّه أدى لمقتل شخصًا آخرًا. لقد سمعت من خلال قصته القصة الأخرى المبطّنة، حيث يظهر هو ضحية لهذه الوضعية، ولكن الآخرين يظّنون عكس ذلك. بدلا من أن أقنعه بأنّه يبالغ بشأن المسئولية الملقاة على عاتقه، أخبرته بأنّي سمعت أنّ الآخرين لا يظّنون بأنهّ ضحية لوضعية مماثلة. وعندها امتد الحبل الذي نسجت حوله العلاقة بيني وبينه. إنّ المقدرة على مخاطبة القلب تتضمّن في داخلها " الوعد" بمواجهة المشكلة التي يريد الشخص المقبل على الانتحار حلّها. وتستطيع هذه المقدرة إيجاد حل للمشكلة التي تبدو عصيبة جدًا في نظر الشخص المقبل على الانتحار، وهي أفضل من أيّ وعد بالنضال من أجل تحقيق العدل.
إنّ لم يتم إيجاد الطريقة للتوصّل إلى رواية الشخص المقبل على الانتحار، واضطررنا إلى تخمين مضمونها، فإنّي أقترح بتبني رواية الفقدان كأفضل رهان. إنّ جميع عمليات الانتحار متعلّقة بفقدان ما: فقدان الحبيب، المحبّ، التقدير الذاتيّ، جانب من الأنا، المكانة، الممتلكات أوّ أحد أعضاء الجسم.
والمشترك بين جميع مشاعر الحزن الناتجة عن فقدان جميع هذه الأمور هو الخوف والذعر من أنّنا إن لم ننجح في استعادة ما فقد فلن يكون معنى لحياتنا ولن نستطيع تحقيق السعادة. إنّ الشعور بالفقدان هو شعور كونيّ ومن خلاله يستطيع الشخص المتواجد في الأسفل إنشاء علاقة تعاطفيّة مع الشخص المتواجد فوق السطح.
أدبيات